فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (19):

{يُخْرِج الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}
قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} قرأ حمزةُ والكسائي: {تَخْرُجُون} بفتح التاء وضم الراء، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الراء.

.تفسير الآيات (20- 24):

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)}
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي: خلق أصلكم يعني آدم من تراب، {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} تنبسطون في الأرض. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} قيل: من جنسكم من بني آدم. وقيل: خلق حواء من ضلع آدم، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادّان ويتراحمان، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عظمة الله وقدرته. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} يعني: اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما، {وَأَلْوَانِكُم} أبيض وأسود وأحمر، وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} قرأ حفص: {لِلْعَالِمِينَ} بكسر اللام. {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي: منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، أي: تصرفكم في طلب المعيشة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر واعتبار.

.تفسير الآيات (25- 27):

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} للمسافر من الصواعق، {وَطَمَعًا} للمقيم في المطر. {وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ} يعني بالمطر {الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: بعد يبسها وجدوبتها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} قال ابن مسعود: قامتا على غير عمد بأمره. وقيل: يدوم قيامها بأمره {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ} قال ابن عباس: من القبور، {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} منها، وأكثر العلماء على أن معنى الآية: ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} مطيعون، قال الكلبي: هذا خاص لمن كان منهم مطيعًا. وعن ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت للبعث، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال الربيع بن خيثم، والحسن، وقتادة، والكلبي: أي: هو هين عليه وما شيء عليه بعزيز، وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وقد يجيء أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق:
إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بَنَى لنا ** بَيْتًا دعائِمُه أعزُّ وأَطْوَلُ

أي: عزيزة طويلة.
وقال مجاهد وعكرمة: {وهو أهون عليه}: أي: أيسر، ووجهه أنه على طريق ضرب المثل، أي: هو أهون عليه على ما يقع في عقولكم، فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء، أي: الابتداء. وقيل: هو أهون عليه عندكم وقيل: هو أهون عليه، أي: على الخلق، يقومون بصيحة واحدة، فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفًا، ثم علقًا ثم مضغًا إلى أن يصيروا رجالا ونساءً، وهذا معنى رواية ابن حِبَّان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى} أي: الصفة العليا {فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} قال ابن عباس: هي أنه ليس كمثله شيء. وقال قتادة: هي أنه لا إله إلا هو، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في ملكه، {الْحَكِيمُ} في خلقه.

.تفسير الآية رقم (28):

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: بيَّن لكم شبهًا بحالكمُ وذلك المثل من أنفسكمُ ثم بين المثل فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: عبيدكم وإمائكم، {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} من المال، {فَأَنْتُم} وهم {فِيهِ سَوَاءٌ} أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم؛ {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحرّ شريكه الحرّ في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمر دونه، وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث، وهو يحب أن ينفرد به. قال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضًا فإذا لم تخافوا هذا من ماليككم ولم ترضوا ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي؟.
ومعنى قوله: {أنفسكم}، أي: أمثالكم من الأحرار كقوله: {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا} [النور- 12]، أي: بأمثالهم. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم.

.تفسير الآيات (29- 30):

{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)}
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا بالله، {أهواءهم} في الشرك، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} جهلا بما يجب عليهم، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي: أضله الله {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مانعين يمنعونهم من عذاب الله عز وجل. قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي: أخلص دينك لله، قاله سعيد بن جبير، وإقامة الوجه: إقامة الدين، وقال غيره: سدد عملك. والوجه ما يتوجه إليه الإنسان، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده، {حَنِيفًا} مائلا مستقيمًا عليه، {فِطْرَةَ اللَّهِ} دين الله، وهو نصب على الإغراء، أي: إلزم فطرة الله، {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي: خلق الناس عليها، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة: الدين، وهو الإسلام. وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين. وهم الذين فطرهم الله على الإسلام: أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يُولد يُولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه كما تَنْتِجُونَ البهيمة، هل تجدون فيها من جَدْعَاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟» قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير، وزاد: ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. قوله: «من يولد يولد على الفطرة» يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف – 172]، وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار، وهو الحنفية التي وقعت الخِلْقة عليها وإنْ عبد غيره، قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} [الزخرف- 87]، وقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر- 3]، ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى أنه يقول: «فأبواه يهوِّدانه» فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكومٌ له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم». ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي، وحماد بن سلمة.
وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته، أي: على خلقته التي جُبل عليها في علم الله تعالى من السعادة أو الشقاوة، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها، وعاملٌ في الدنيا بالعمل المُشَاكِل لها، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين، فيحملانه- لشقائه- على اعتقاد دينهما. وقيل: معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجِبِلَّة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرَّ على لزومها، لأن هذا الدين موجودٌ حُسْنُه في العقول، وإنما يَعْدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره.. ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك على الفطرة السليمة والمحجة المستقيمة. ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه.
قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فمن حمل الفطرة على الدين قال: معناه لا تبديل لدين الله، وهو خبر بمعنى النهي، أي: لا تبدلوا دين الله. قال مجاهد، وإبراهيم: معنى الآية الزموا فطرة الله، أي دين الله، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقيل: لا تبديل لخلق الله أي: ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاء لا يتبدل، فلا يصير السعيد شقيًا ولا الشقي سعيدًا. وقال عكرمة ومجاهد: معناه تحريم إخصاء البهائم.

.تفسير الآيات (31- 34):

{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)}
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم يدخل معه فيها الأمة، كما قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق- 1]، {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: راجعين إليه بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة، {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي: صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى. وقيل: هم أهل البدع من هذه الأمة، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: راضون بما عندهم. قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} قحط وشدة، {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} مقبلين إليه بالدعاء، {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} خصبا ونعمةُ {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد فقال: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} حالكم في الآخرة.

.تفسير الآيات (35- 39):

{أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}
{أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: حجة وعذرًا. وقال قتادة: كتابًا، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} ينطق، {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} أي: ينطق بشركهم ويأمرهم به. {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} أي: الخصب وكثرة المطر، {فَرِحُوا بِهَا} يعني فرح البَطَرُ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي: الجدب وقلة المطرُ ويقال: الخوف والبلاء {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} السيئات، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ييأسون من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمن، فإنه يشكر الله عند النعمة، ويرجو ربه عند الشدة. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} البر والصلة، {وَالْمِسْكِينَ} وحقه أن يتصدق عليه، {وَابْنَ السَّبِيلِ} يعني: المسافر، وقيل: هو الضعيف، {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} يطلبون ثواب الله بما يعملون، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قوله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} قرأ ابن كثير: {أتيتم} مقصورًا، وقرأ الآخرون بالمد، أي: أعطيتم، ومن قصر فمعناه: ما جئتم من ربا، ومجيئوهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول: أتيت خطئًا، وأتيت صوابًا، فهو يؤول في معنى إلى قول مَنْ مدّ. {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قرأ أهل المدينة، ويعقوب: {لتُرْبُوا} بالتاء وضمها وسكون الواو على الخطاب، أي: لتُرْبُوا أنتم وتصيروا ذوي زيادة من أموال الناس، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها، ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا لقوله: {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه} في أموال الناس، أي: في اختطاف أموال الناس واجتذابها.
واختلفوا في معنى الآية، فقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وطاوس، وقتادة، والضحاك، وأكثر المفسرين: هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيب أكثر منها فهذا جائز حلال، ولكن لا يثاب عليه في القيامة، وهو معنى قوله عز وجل: {فلا يربوا عند الله}، وكان هذا حرامًا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لقوله تعالى: {ولا تمننْ تستكثرْ} [المدثر- 6]، أي: لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت. وقال النخعي: هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله ولا يريد به وجه الله. وقال الشعبي: هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه، لا لوجه الله، فلا يربوا عند الله لأنه لم يرد به وجه الله تعالى.
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} أعطيتم من صدقة {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات، تقول العرب: القوم مهزولون ومسمونون: إذا هزلت أو سمنت إبلهم.